آخر الأخبار

الشيخ أبو العلا محمد













أبو العلا محمد شيخ الملحنين الذي انتحر بتناول (الحلاوة الطحينية)

بقلم - عمرو رضا/مجلة دبي الثقافية/العدد: 46

إذا كنت شغوفاً بالبحث عن البدايات في مسيرة الموسيقى العربية، فسينتهي بك المطاف غالباً عند أستاذ الأساتذة الشيخ أبوالعلا محمد رائد تلحين القصيدة المغناة، وأول من أخرجها للشعب بعدما كانت حكراً للحضرة الخديوية، فضلاً عن أنه مبتكر أول تخت موسيقي حديث، وأول صانع للنجوم في عالم الموسيقى الشرقية، كما أنه أول من كرّس سلطة الملحن منهياً بذلك عصوراً من الارتجال، وأول مبدع في التاريخ ينتحر (بالحلاوة الطحينية)! في الثامن من شهر أغسطس /اَب عام 1878 كانت بني عدي التابعة لمركز منفلوط بمحافظة أسيوط بوسط صعيد مصر، على موعد لاستقبال المولود الجديد ( أبو العلا بن محمد بن حافظ ) حفيد الشيخ (العدوي) من ناحية الأب والأمير (حسن كتخدا) من ناحية الأم ، ويبدو أنّه درس زمناً في الأزهر، حيث استقرّ بحارة سوق المسك وابتدأ منشداً وقارئاً للقراَن، ومن ثمّ منح لقب الشّيخ، بعدها مال إلى عالم الفنّ فصار يغنّي في السّهرات الخاصّة القصائد والأدوار، مستلهماً الأصول الجماليّة للمدرسة الفنّيّة الّتي أسّسها المطرب والملحّن عبده الحامولي ، وغنّى عدداً من أشهر أعماله مضيفاً إليها من إبداعه وقدرته على الارتجال، وقد سجّل أسطواناته الأولى في يناير/كانون الثاني 1912 لشركة جراموفون ثمّ لعدد من الشّركات الأخرى، مثل ميشيان خلال سنوات الحرب وبيضافون سنة 1920 وبوليفون سنة 1924! كانت تلك التسجيلات أول محاولة للخروج (بالموسيقى الفصحى) من المجالس الخديويّة الخاصّة لتنتشر بين الجمهور في القاهرة والمحافظات، مؤسسة فيما بعد الملمح الأساسي للموسيقى المصرية في القرن العشرين ، وقد تخلّى جزئيّاً عن الغناء الدّينيّ كالإنشاد وتجويد القراَن، واتّخذ لنفسه تختاً من أكبر عازفي ذلك الوقت، وقد ذكر عازف الكمان الشّهير سامي الشّوّا أنّ أبوالعلا محمّد لم يكن يتدرّب على الألحان الّتي يسجّلها ، فكان يطلب من أفراد التّخت أن يعزفوا مقدّمة من مقام معيّن تاركاً العنان لبديهته وقريحته، ويقال إنّهم كانوا يسألونه : ماذا ستغنّي اليوم يا شيخ ؟ فيجيبهم: (اللّي يجود بيه علينا ربّناً)، إلاّ أنّ المنصت إلى تسجيلاته يتبيّن معالم تمكّن كبير من القطع المغنّاة وجهداً تركيبيّاً لحنيّاً متطوّراً.


فإنه ظل لاَخر عمرهرغم أثر الخمر الواضحوعلى (سيد صوته) إلى حد بعيد، ويمكنك أن تلحظ بوضوح أن ينحدر من الطبقاتليونة غريبة وقدرة عجيبة على العليا إلى الطبقات السفلى في ثوانٍ، وكان فنّاناً مبدعاً ذا قدرات جبّارة على الابتكار المقاميّ، ممّا أكسبه شهرة كبيرة بين الأوساط الفنّيّة، حتّى إنّه عُدّ خليفة الحامولي، وتشهد على تلك السّمعة كثرة المطربين الّذين أعادوا غناء ألحانه وأبرزهم كوكب الشرق أم كلثوم ومطربة القطرين فتحية أحمد والشيخ سيد الصفتي والسلطانة منيرة المهدية، كما يشهد على ذلك أيضاً موافقة أشهر قراء القراَن الكريم الشيخ محمد رفعت على غناء قصيدة (وحقك أنت المنى والطلب) من تلحين الشيخ أبو العلا محمد في إحدى الإذاعات المحلية الأهلية، وللأسف لم تسجل على أسطوانة! أبو العلا كلّ ضروب الغناء الفصيح وقوالبهجرّب بما في ذلك الطّقطوقة، غير أنّه وسم عصره بما لحّنه من قصائد استأثرت بما يفوق النّصف من مجموع رصيده من التّسجيلات، وهي نسبة لم يبلغها غيره من بين معاصريه من أهل الغناء، وهي في معظمها قصائد صوفيّة من مؤلّفات أعلام التّصوّف المصريّ في العصر الأيّوبيّ أمثال ابن النّبيه المصريّ وابن الفارض والبهاء زهير الذي غنى له رائعته (غيري على السلوان قادر)، ونجد بينها أيضاً أعمالاً لشعراء متأخّرين مثل (والله لا أستطيع صدك) للإمام الشّبراوي شيخ الأزهر في نهايات القرن الثامن عشر وإسماعيل صبري باشا وأحمد رامي.


وخلافاً للأسلوب الكلاسيكي كما عرفناه عند عبدالحي حلمي أو سلامة حجازي، فإنّ أبوالعلا محمّد أول من قدم القصيدة المغنّاة الموقّعة عبر مقام موسيقي محكم لا مجال فيه للارتجال، وفيما يخص ّ الدّور فإنّ ألحانه كانت بداية لعصر سيطرة الملحن ونهاية لعصر ارتجال المطرب، مبشّراً بما ستصير عليه الموسيقى المصريّة فيما بعدُ، كذلك مثّلت ألحان أبوالعلا محمّد مرحلة في تطوّر مفهوم القصيدة المغنّاة، حيث كانت ممهدة لألحان زكريا أحمد ومحمّد عبدالوهاب خاصة أعماله الأولى، فقد بدت بصمات تأثير المُعلّم (أبوالعلا) فيها واضحة مثل (منك يا هاجر دائي)! ابتكارات أبو العلا محمد لم تنحصر في مجال التلحين فقط، فهو صاحب السبق في مجال صناعة النجوم وتجربته مع كوكب الشرق تصلح درساً لكيف تصنع نجماً، فعندما استمع لصوتها على رصيف محطة قطار طماي الزهايرة قال لوالدها: حرام عليك أن تحبس هذه الموهبة في قرية صغيرة. . ونصحه بالانتقال إلى القاهرة عاصمة الفن والشهرة ، وبالفعل استجاب الشيخ إبراهيم السيد البلتاجي والد أم كلثوم لنصيحة الشيخ أبو العلا محمد واستقرت الأسرة في القاهرة ، ولم يبخل الشيخ أبو العلا محمد على أم كلثوم بفنه وتجاربه، فأعد لها دروساً في الموسيقى والإلقاء بمعاونة الشاعر الكبير أحمد رامي وفتح لها أبواب الإعلام، وكان صاحب أول (نيولوك) في تاريخ الموسيقى العربية عندما أقنعها بالتخلي عن العقال والزي البدوي والتخت البدائي المصاحب لها، وحولها إلى الاَنسة أم كلثوم (صاحبة العصمة)! نهاية أبوالعلا تتشابه كثيراً مع نهايات أقرانه فقد كان مدمنا على الكحول كشأن الكثير من مطربي ذلك العصر الّذين التمسوا في المسكرات والمخدرات مصدر إلهام وإبداع لفنّهم، كما كانوا يتوهمون، كما كان مصاباً بداء السّكّريّ، ما أدّى به إلى فقد القدرة على الحركة والكلام في النّصف الثّاني من العشرينيات، ويحكى أنّه لمّا استبدّ به المرض وتملّكه اليأس ، انتحر بتناول كمّيّة كبيرة من الحلاوة الطحينية في الخامس من شهر يناير/كانون الثاني عام 1927، ولم يشّيع جثمانه إلاّ نفر من الفنّانين كانت بينهم تلميذته أمّ كلثوم، وقد مشت في جنازته حافية القدمين


أحدث أقدم